الرد على الفقيه كركيش
في زعمه:
( أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم ليس دليلا على عدم المشروعية)
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد فقد أوقفني بعض إخواننا الفضلاء على ورقة ضمنها الأستاذ كركيش جملة من أدلته وشواهده على أن الترك في ما يخص العبادات ليس دليلا على الحرمة مطلقا, والخلاف منحصر في ما إذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم ما يزعم أنه عبادة مع قيام الدواعي لفعلها وعدم وجود موانع لها,وهذا ما سيلحظه القارئ الكريم بقليل من التأمل والإنصاف. والغريب أن الشيخ لم يفرق بين العبادات وغيرها,وهو يعلم جيدا أن الأصل في العبادات التوقف بخلاف غيرها كالمطعومات والمعاملات فإن الأصل فيها الإباحة.فكل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله فلا يجوز التعبد بها كما قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.وقد ذكرت الحق الذي أعتقده في المسألة في رسالة مستقلة يعرفها الإخوان , أصلها أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ,وزينتها بتحف من أقوال العلماء المحققين من أهل السنة في بيان حجية الاستدلال بالترك في ما ذكرناه كالشافعي وابن حجر والذهبي وابن تيمية وابن المنير والشاطبي وغيرهم, وقد قصد الأستاذ إلى بعض العبادات التي رويت عن بعض الصحابة موقوفة مستدلا بها على مشروعية إحداث العبادات أو كيفياتها.وفاته أمر كالفصل في الموضوع, وهو الفارق الكبير الكائن بين الصحابة وغيرهم, ففعل صحابي ما أو قوله يحتمل أمرين, أحدهما كون فعله أو قوله اجتهادا منه, وثانيهما كونه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يصرح بذلك,فلكونه صحب النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه ورأى, كانت شائبة الرفع الاصطلاحي في فعله أو قوله قوية,ولذلك اختلف في حجية فعل وقول الصحابي. وجملة من العلماء قالوا : الأصل أنه موقوف حقيقة حتى تغلب القرائن على كونه مرفوعا حكما أو يصح دليل الرفع الحقيقي.أما غيرهم كأمثالنا فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه , فإن أحدث أحد منا عبادة وسأل عن دليله وقال : ليس لي دليل فإننا نقف عند ذلك ونلغي اختياره.أما الصحابي فلسنا متيقنين من كون ذلك اجتهادا منه لأنه لم يصرح بذلك, وهذا الغالب.وهذا هو الفارق الأقوى بين الصحابة وبيننا فيما يخص هذا المبحث وأمثاله,. وهذا ما كتبته : 1ـ الإقران في الطواف ذكر الأستاذ كركيش أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرن في الطواف, وأن أبا هريرة قرن وكذلك عائشة والمسور بن مخرمة ونسب الرواية إلى الأزرقي وابن أبي شيبة. قلت : هذا مذهب جمع من الشافعية كما قال النووي في المجموع,وروي فيه حديث عن أبي هريرة قال : (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفجر ثم قرأ ست ركعات يلتفت في كل ركعتين يمينا وشمالا فظننا أنه لكل أسبوع ركعيتن) رواه أبو يعلى وفيه عبد السلام بن أبي الجنوب وهو متروك.وأنكره ابن عمر كما قال البيهقي في السنن,ولم يصح عن أبي هريرة ذلك موقوفا. وأما فيما يخص أمنا عائشة الطاهرة رضي الله عنها فقد روى عبد الرزاق (9017) والأزرقي (394) عن محمد بن السائب بن بركة عن أمه أنها طافت مع عائشة بالبيت ثلاثة أسابيع لا تصلي بينهن فلما فرغت صلت لكل سبع ركعتين. وأم محمد بن السائب لا تعرف. وروى ابن أبي شيبة (14795)عن ابن جريج عن عطاء عن عائشة أنها كانت تقرن بين الأسابيع وفيه ابن جريج وهو مدلس وقد عنعن. وروى ابن أبي شيبة(14794) عن ليث عن طاوس عن عائشة أنها كانت لا ترى بأسا أن يطوف الرجل ثلاثة أسباع أو خمسة ثم يصلي وليث بن أبي سليم ضعيف. وقد كذّب القاسم بن محمد هذا فروى ابن أبي شيبة ( 14802 )والأزرقي ( 388) أن ناسا ذكروا عند القاسم بن محمد أن عائشة رضي الله عنها كانت تقرن بين الأسابيع فقال القاسم اتقوا الله ولا تقولوا على أم المؤمنين ما لم تكن تفعل . وفيه حفص بن غياث وفيه ضعف خفيف. قلت : المثبت مقدم على النافي على فرض صحته, ومجموع طرق الخبر عن عائشة يدل على أن له أصلا صحيحا.ونعوذ بالله من تضعيف خبر بالهوى بلا بينة . لكن يعارضه ما رواه الأزرقي ( 378) عن عبد الله بن نافع عن عروة بن هشام بن عروة عن أبيه عن جده عن عائشة رضي الله عنها أنها كرهت الإقران في الطواف وأن عروة كان يكرهه وأن هشاما كان يكرهه وأما ما ذكره عطاء فرواه الأزرقي (377) عن ابن جريج عن عطاء قال: لم أر الناس يقرنون في الطواف وهو محدث ولم يفعله أحد من الماضين إلا عائشة والمسور بن مخرمة وابن جريج مدلس وقد عنعن . والصحيح ما رواه ابن أبي شيبة( 14798 ) عن وكيع عن عمر بن ذر عن مجاهد أنه أنكره وقال
ما فعله أحد إلا رجل من قريش المسور بن مخرمة ) وهذا إسناد صحيح .قلت : ومعه عائشة على فرض صحة الخبر في ذلك عنها. وروي مثل ذلك عن طاوس, وعلى فرض صحة ذلك عن المسور وطاوس فلعله بلغهما في ذلك سنة, كما روى الأزرقي (399) عن ابن جريج عن عطاء قال : (بلغني ذلك عن المسور بن مخرمة وعن طاوس وما أظن ذلك إلا شيئا بلغهما ) . وفيه ابن جريج وقد عنعن ولكن روى بن أبي شيبة (13255 ) بإسناد جيد عن المسور بن مخرمة كما قال الحافظ في الفتح عن عطاء قال: ( كان المسور بن مخرمة يطوف بالغداة بثلاثة أسابيع فإذا طلعت الشمس صلى لكل أسبوع ركعتين وبعد العصر يفعل ذلك فإذا غابت الشمس صلى لكل أسبوع ركعتين) وروى ابن أبي شيبة (13257) حدثنا محمد بن فضيل عن عبد الملك(ابن أبي سليمان) عن عطاء عن عائشة أنها قالت: ( إذا أردت الطواف بالبيت بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العصر فطف وأخر الصلاة حتى تغيب الشمس وحتى تطلع فصل لكل أسبوع ركعتين وهذا إسناد جيد.فدل هذا أن سبب تأخيرهما ركعة كل أسبوع هو ما ورد من النهي عن الصلاة في تلك الأوقات, ففعلهما كان لسبب وجيه, وهذا اجتهاد لا ابتداع, وهو بخلاف ما يقصد إليه الأستاذ كركيش . وقد علل ابن قدامة جواز الجمع بقوله : (إن الطواف يجري مجرى الصلاة يجوز جمعها ويؤخر ما بينهما فيصليهما بعدها كذلك ها هنا ) وأما ابن رشد فنقل في البداية عن من أجاز ذلك تعليلهم إياه بقوله: (حجة من أجاز الجمع أنه قال: المقصود إنما هو ركعتان لكل أسبوع والطواف ليس له وقت معلوم ولا الركعتان المسنونتان بعده فجاز الجمع بين أكثر من ركعتين لأكثر من أسبوعين) وعلى كل حال فقد ظهرت علة فعل عائشة والمسور , وأما ما صح عنها أنها كانت تكره ذلك فلعله كرهته في غير تلك الصورة والله أعلم. فلم يبق ثمت مستمسك للأستاذ. 2ـ ترك الصلاة على قاتل نفسه نقل الأستاذ كركيش عن الشوكاني أنه قال في حديث جابر بن سمرة في ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من قتل نفسه : مجرد الترك لا يدل على الحرمة المدعاة قلت : هذا صحيح فقد قال الشوكاني في حديث جابر: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما لم يصل عليه بنفسه زجرا للناس وصلت عليه الصحابة ويؤيد ذلك ما عند النسائي بلفظ (أما أنا فلا أصلي عليه) وأيضا لو فرض أنه لم يصل عليه هو ولا غيره فلا يدل ذلك على الحرمة المدعى, ويدل على الصلاة على الفاسق حديث (صلوا على من قال لا إله إلا الله) وقد تقدم الكلام عليه,فعلم بهذا أن ترك النبي لذلك كان لمصلحة التأديب , وقد أقر من صلى عليه وهو حاضر,وليس هذا مبحثنا. 3ـ أثر علي بن أبي طالب ذكر الأستاذ كركيش أثرا عن علي نقلا عن الشوكاني في النيل ,وفيه أنه أجاز الصلاة قبل العيد وبعده.وهو ضعيف. رواه البزار في مسنده ( 487) قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: نا إبراهيم بن محمد بن النعمان الجعفي أبو إسحاق قال : سمعت الربيع بن سعيد الجعفي قال: نا الوليد بن سريع مولى عمرو بن حريث قال: خرجنا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم عيد فسأله قوم من أصحابه فقالوا: يا أمير المؤمنين ,ما تقول في الصلاة يوم العيد قبل الإمام وبعده؟ قال : فلم يرد عليهم شيئا. ثم جاء قوم آخرون فسألوه كما سأله الذين كانوا قبلهم, فما رد عليهم فلما انتهينا إلى الصلاة صلى بالناس فكبر سبعا و خمسا ثم خطب الناس ثم نزل فركب فقالوا :يا أمير المؤمنين هؤلاء قوم يصلون... قال :فما عسيت أن أصنع سألتموني عن السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها فمن شاء فعل ومن شاء ترك أتروني أمنع أقواما يصلون فأكون بمنزلة من يمنع عبدا أن يصلي وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عمرو بن حريث إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد ولا نعلمه يروى عن علي إلا من هذا الوجه متصلا قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/203) : فيه من لم أعرفه. فالخبر ضعيف والله أعلم. 4ـ الصلاة قبل العيد وبعده قلت : يجوز الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها مطلقا للأحاديث الواردة في فضل الصلاة والمجيزة للصلاة بعد طلوع الشمس قيد رمح, إذ لا فرق بين يوم العيد وغيره في ذلك. دون اعتقاد أنها من شعائر العيد, لأن دواعي اعتبارها سنة للعيد كانت متوافرة كما هي السنن الرواتب القبلية والبعدية ومع ذلك لم يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى شيئا قبل صلاة العيد أو بعدها,أو ندب إلى صلاتها خاصة, ولعله لم يفعل لكي لا يظنها أحد سنة والله تعالى أعلم. ومن صلاها من الصحابة لم يصلها على أنها سنة قبلية .والأكمل إن صح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها أن لا تصلى.وليس هذا مبحثنا. 5ـ عدم صيام شهر كامل سوى رمضان نقل الأستاذ كركيش عن ابن حزم أن النبي لم يصل شهرا قط إلا رمضان. قلت : أما عدم صيامه صلى الله عليه وسلم شهرا كاملا غير رمضان إن صح ذلك (وقد صح أنه صام شعبان في حديث عائشة الصحيح) فلا يدل على المنع إذ قد ورد جواز ذلك على لسانه بشرط أن لا يصام الدهر ,وعلمهم أفضل الصيام, فتركه دليل فقط على مرجوحية الترك على الفعل.وليس هذا مبحثنا. 6ـ عدم تكراره العمرة في عام واحد. نقل الأستاذ كركيش قول الحافظ : (المندوب لم ينحصر في أفعاله ...) قلت وتمامه : (فقد كان يترك الشيء وهو يستحب فعله لرفع المشقة عن أمته وقد ندب إلى ذلك بلفظه فثبت الاستحباب. والأصل : (وتُعقب بأنه المندوب ...) أي أنه تعقبٌ لغيره. فعدم فعله صلى الله عليه وسلم كان لمانع, وهو خوف وقوع المشقة على أمته.فتكرار العمرة للآفاقي فيه مشقة ولذلك أمر الله بالهدي للمتمتع والقارن لأنه جوز له العمرة والحج في سفرة واحدة ولم يحتج إلى رحلتين. فعدم تكراره العمرة في عام لا يدل على المنع لأنه صلى الله عليه وسلم قال : (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) ولم يوقت,وإلى ذلك أشار الحافظ بقوله
وقد ندب إلى ذلك بلفظه فثبت الاستحباب). وقال : (عمرة في رمضان كحجة معي), وأمر الصحابة بفسخ الحج إلى العمرة, فلو اعتمر رجل في رمضان ثم عاد إلى بلده ثم أدرك الحج وحج متمتعا اعتمر أيضا فكانت له عمرتان في عام واحد.وليس هذا الحديث في مورد النزاع. 7ـ ابن مسعود يزيد في التشهد ـ نقل الأستاذ كركيش أن ابن مسعود كان يزيد في التشهد (السلام علينا من ربنا ) وقال رواه الطبراني في الكبير وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح. قلت : نعم رواه الطبراني في الكبير (9/241/ 9184 ) عن الشعبي قال
كان ابن مسعود يقول بعد السلام عليك أيها الله السلام علينا من ربنا) ولكن الشعبي لم يسمع من ابن مسعود ولم يذكروه في شيوخه , قال الحاكم في علوم الحديث والدارقطني في سؤالات حمزة وأبو حاتم كما في مراسيل ابنه : (لم يسمع من عبد الله ابن مسعود), فالخبر منقطع ضعيف لا يصح بحال. 8ـ زيادة ابن عمر البسملة في أول التشهد ذكر الأستاذ كركيش أن ابن عمر زاد في أول التشهد البسملة. قلت : روى ذلك الإمام مالك في الموطأ.,وأنكره ابن مسعود وابن عباس كما في سنن البيهقي. وقد روى الطحاوي في شرح معاني الآثار عن المسيب بن رافع قال: سمع عبد الله رجلا يقول في التشهد : (بسم الله التحيات لله). فقال له عبد الله. أتأكل؟ . واستدل الحافظ على أنها مخالفة للهدي بما رواه عبد الرزاق في المصنف(3065 ) عن قتادة عن يونس بن جبير عن حطان ابن عبد الله الرقاشي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة له : (فإذا كان عند القعود فليقل أحدكم أول ما يقعد التحيات لله ) ورواه أبو داود (972) عن هشام عن قتادة بلفظ
فإذا كان عنده القعدة فليكن من أول قول أحدكم أن يقول التحيات الطيبات) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.وليس هذه الصورة مما يصلح في مثل هذا الموطن. 9ـ ترك أبي بكر وعمر وعثمان صلاة ركعتين قبل المغرب قال الأستاذ كركيش ما نصه : (في المحلى مسألة ( 283) في التعليق على أن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا يصلون الركعتين قبل المغرب, وأن ابن عمر قال : ما رأيت أحدا يصليها. قال : ليس فيه إلا الإباحة للصلاة.وقال : فليس في هذا لو صح عن ابن عمر النهي عنهما , وقال : وليس في هذا نهي عنها ولا كراهة) قلت : أما ما ورد في بعض الروايات أن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا يصلونها فقد ضعفها ابن حزم نفسه فقال : (وذكروا عن إبراهيم النخعي أن أبا بكر ...)قال :منقطع, لأن إبراهيم لم يدرك أحدا ممن ذكرنا. وأما أثر ابن عمر فضعفه أيضا فقال : (لا يصح, لأنه عن أبي شعيب أو شعيب ولا ندري من هو). وقد يكون قصد الأستاذ كركيش من النقل قوله : (ليس في هذا نهي عنها ولا كراهة). والجواب بعون الملك الوهاب أن قول ابن حزم هذا يفهم بمقدمات ولا بد. أولها : أن الأصل عنده جواز التطوع في أي وقت ما لم ينه عنه الشرع, وصلاة ركعتين قبل المغرب من ذلك. ولم ينه عنها. ثانيا: أن ترك كل التطوع مباح ما لم يترك رغبة عن السنة.وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (بين كل أذانين صلاة), وقد اعتمده ابن حزم, وصلاة ركعتين قبل المغرب بعد الأذان وقبل الإقامة من ذلك, فهي سنة إذن, وتركها من الأئمة الثلاثة لو صح يدل على جواز تركها . ثالثا : أن ركعتين قبل المغرب سنة قبلية عند ابن حزم,نقلها عن جمع من الصحابة منهم أنس وعبد الرحمن بن عوف وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله,وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : (صلوا قبل المغرب , صلوا قبل المغرب لمن شاء).إذن, فركعتان قبل المغرب مسنونة في الأصل, ويجوز تركها لقوله صلى الله عليه وسلم (لمن شاء) وتركها من طرف بعض الصحابة إن صح إنما يدل على جواز تركها.وهو موافق لمنطوق الحديث,وهذا الذي يقصده ابن حزم. لا يمكن غير هذا.والله أعلم. 10ـ زيادة عمر وعمر (لبيك وسعديك والخير بيديك والنعماء ...) ذكر الأستاذ كركيش أن عمر رضي الله عنه كان يزيد في التلبية وذكر اللفظ ونسبه لمسلم قلت : هذا صحيح, وقد أخذ ابن عمر أيضا هذه التلبية من أبيه.والجواب على هذا من وجوه: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي),وليس أحد مثل عمر. الثاني : أنه يجوز الزيادة , ودليل هذا ما رواه أحمد من حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أنه قال : (والناس يزيدون (لبيك ذا المعارج لبيك ذا الفواضل) فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه). وهذا إقرار منه صلى الله عليه وسلم قال ابن تيمية في الفتاوى (26/115) : وإن زاد على ذلك (لبيك ذا المعارج) أو (لبيك و سعديك) و نحو ذلك, جاز كما أن الصحابة يزيدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعهم فلم ينههم. فبطل استدلال الأستاذ كركيش.فليس كلامنا في مثل هذه الصور التي ورد النص باعتبارها.وكذلك القول في ما ذكره الأستاذ كركيش أن ابن مسعود كان يزيد
لبيك عدد التراب) إن صح عنه والله الموفق. 11ـ رفع عمر ابن الخطاب صوته في الاستفتاح ذكر كركيش أن عمر بن الخطاب كان يرفع صوته بالاستفتاح قلت : كان الأولى أن يذكر الرواية كاملة, لا سيما أنه مر عليها وقرأها وشرحها ولا بد, ولفظها عند الدارقطني في السنن (1/301)من حديث الأسود قال
كان عمر إذا افتتح الصلاة قال : سبحانك اللهم وبحمدك, وتبارك اسمك, وتعالى جدك ولا إله غيرك يسمعنا ذلك ويعلمنا) وإسناده صحيح كما قال أبو الطيب في تعليقه على السنن. فظهر من الرواية أن عمر ما كان يرفع صوته تعبدا وزيادة في الدين.بل للتعليم فقط.وهذه مصلحة متحققة معتبرة, فإن حصل المراد فلا ينبغي رفع الصوت بها, لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل ذلك, والسنة الإسرار بها ,بخلاف من يزيدون في دين الله ما ليس منه ويتعبدون به على أنه سنة ولا حول ولا قوة إلا بالله . قال المجد ابن تيمية الجد صاحب المنتقى ـ وهو أصل نيل الأوطار ؟! ـ :وجهر عمر به أحيانا بمحضر من الصحابة ليتعلمه الناس مع أن السنة إخفاؤه يدل على أنه الأفضل وأنه الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم عليه غالبا . 12ـ رفع ابن عباس صوته بالفاتحة في صلاة الجنازة ذكر الأستاذ كركيش أن ابن عباس رفع صوته بالفاتحة في الجنازة جاعلا إياها من الجزئيات الكثيرة الدالة على أن الترك ليس دليلا على المنع في أمور العبادة على ما صورناه. قلت : كان الأولى أيضا أن يذكر الأستاذ الرواية كاملة, ونصها عند البخاري عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال :صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب فقال : (ليعلموا أنها سنة). وفي رواية : فلما فرغ أخذت بيده فسألته قال
لتعلموا أنها سنة), فظهر من الرواية أن ابن عباس فعلها مرة واحدة فقط للتعليم, وهذا أمر جائز لا يخالف فيه أحد.وهذه صورة تخالف صورة الابتداع في الدين , حيث توضع البدعة موضع السنة التي يعمل الناس بها دائما.والله أعلم. 13ـ وقفة مع كلام الإمام التلمساني في مفتاح الوصول نقل الأستاذ كركيش عن الإمام التلمساني في مفتاح الوصول كلاما طويلا محتجا به على أن الترك ليس سنة.ونصه : (ويلحق بالفعل في الدلالة الترك,فإنه كما يستدل بفعله r على عدم التحريم,يستدل على عدم الوجوب ,وهذا كاحتجاج أصحابنا على عدم وجوب الوضوء مما مسته النار, بما روي أنه صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ وكاحتجاجهم على أن الحجامة لا تنقض الوضوء, بما روي أنه صلى الله عليه وسلم (احتجم ولم يتوضأ وصلى.) وعلى كل ذلك ملاحظات منها قوله : (كما يستدل بفعله على عدم التحريم) قلت: إن الاستدلال بحديث ترك النبي الوضوء مما مسته النار على عدم الوجوب باعتبار قاعدتين.أما الأولى فالأصل عدم وجوب الوضوء من شيء حتى يدل الدليل وأما الثانية فإن الوضوء مطلقا مستحب في كل وقت دون تخصيص. وكذلك الوضوء من الحجامة. ومنها أنه قد دل الدليل على مشروعية الوضوء مما مست النار . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى (20/524): ( ولهذا أمر بالوضوء مما مست النار وهو حديث صحيح, وقد ثبت في أحاديث صحيحة أنه أكل مما مست النار ولم يتوضأ فقيل إن الأول منسوخ لكن لم يثبت أن ذلك متقدم على هذا بل رواه أبو هريرة وإسلامه متأخر عن تاريخ بعض تلك الأحاديث كحديث السويق الذي كان بخيبر فإنه كان قبل إسلام أبى هريرة وقيل بل الأمر بالتوضؤ مما مست النار استحباب كالأمر بالتوضؤ من الغضب وهذا أظهر القولين وهما وجهان في مذهب أحمد فان النسخ لا يصار إليه إلا عند التنافي والتاريخ وكلاهما منتف بخلاف حمل الأمر على الاستحباب فإن له نظائر كثيرة.) قلت : وعلى القول بالنسخ فإنما نسخ الوجوب وبقي الاستحباب,كصيام عاشوراء. وهذا معروف. ثم إن كلام الإمام التلمساني منحصر في التروك المتعلقة بما كان الأصل فيه الإباحة,لا ما كان الأصل فيه الحرمة والتوقف وهي أمور العبادة المحضة.فلا بد من اعتبار هذا الفرق واجتناب التخليط بين المسألتين. وهذا مربط البحث كي لا يجمح بعيدا. 14ـ ضرب عمر بن الخطاب شارب الخمر ثمانين حدا. ذكر الأستاذ كركيش أن عمر زاد في حد شارب الخمر على ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضرب أربعين,فدل ذلك على أن تركه لم يدل على منع الزيادة قلت : هذا غريب , فالأستاذ يعرف أنه قد صح عند مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة . فصرح علي بسنية الثمانين.ولمثل هذا حكم الرفع إلى النبي r.ثم قد صح حديث في تعليل سنية الثمانين كما في الموطأ عن ثور بن زيد الديلي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب نرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى أو كما قال فجلد عمر في الخمر ثمانين. فكيف خفي هذا عن الأستاذ وهو في موطأ إمام مذهبنا؟! فلا يصلح هذا دليلا للأستاذ. 15ـ قول الإمام الشاطبي في الترك نقل الأستاذ كركيش عن الشاطبي قوله في الموافقات : (الترك دال على مرجوحية الفعل) يؤسفني أن أقول : أخطأ الأستاذ حفظه الله في بتر كلام الشاطبي وإخراجه من سياقه,ونص كلام الشاطبي كاملا في الموافقات (4/44 و45 و46) وأما الترك فمحله في الأصل غير المأذون فيه, وهو المكروه والممنوع, فتركه عليه الصلاة والسلام دال على مرجوحية الفعل, وهو إما مطلقا وإما في حال. ثم قال : (وقد يقع الترك لوجوه غير ما تقدم,منها الكراهية طبعا كما قال في الضب ... ومنها الترك لحق الغير, ومنها الترك خوف الافتراض ومنها ترك المباح الصرف إلى ما هو الأفضل,ومنها الترك للمطلوب خوفا من حدوث مفسدة أعظم من مصلحة ذلك المطلوب),وقد تكلم الإمام الشاطبي عن ترك آخر هو ما ندندن حوله, وقرر حكم الشرع فيه, وهو ما كان متعلقا بالعبادات فيالموافقات (2/310 و311).وقد نقلتها في رسالة(الترك سنة).ويكفي ما نقله الأستاذ مبتورا حجة عليه, فإن الأرجحية غير الأولوية. مالك والترك
ذكر الأستاذ كركيش أن الإمام مالكا يستدل بالترك على عدم الوجوب فقط في مواضع من الموطأ. قلت :من الخطير جدا أن يقول هذا فقيه مالكي بإطلاق دون تقييد. وكأنه لا يعرف منهج مالك في الاستدلال.وبيان ذلك أن يقال : لا يختلف عاقلان في أن مالكا من أشد الناس احتياطا في الدين, وإنكارا للبدع. والذي يعرف أن مالكا كان يستدل بالترك في الأمور التعبدية على عدم المشروعية.بخلاف غيرها, كما استدل على بدعية سجود الشكر لعدم وجود دليل على ذلك عنده. قال ابن رشد المالكي رحمه الله تعالى: الوجه في ذلك أنه لم يره مما شرع في الدين يعنى سجود الشكر لا فرضا ولا نفلا إذ لم يأمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعله ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه قال واستدلاله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل صحيح إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين وقد أمروا بالتبليغ قال وهذا أصل من الأصول. قال الشاطبي معقبا : والمقصود من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة, لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق.نقلته من الموافقات (2/313) وختاما أقول إن قراءة القرآن جماعة بصوت واحدا جهرا, لا يعرف عن أحد من الصحابة أو التابعين, وكذلك الذكر خلف الجنازة بصوت واحد جهرا لم يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين ولم يعرف أيضا عن تابعيهم من المجتهدين أنه جوزها ودليلهم في ذلك عدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لذلك, كما قال الشاطبي والقرافي وابن لب ومفتي فاس الشيخ الرهوني رحمه الله المالكيون كما في التحصن والمنعة له,والاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله النبي ولا الصحابة ولا الأئمة الأربعة ولا تابعوهم بإحسان,إنما هي بدعة فاطمية سايرهم عليها العزفيون بسبتة والملك المظفر بإربل, وكذلك التهليل في الصوامع إنما هو إحداث من المهدي بن تومرت كما قال الشاطبي, وغيرها من البدع التي ننكرها على الأستاذ وغيره لم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها ولا الصحابة ولا التابعون ولا تابعوهم بإحسان, أيصح أن يكون الأستاذ ومن معه أعلم الناس بالسنة , وأحرصهم على الخير من كل أولئك؟!أنزه الأستاذ عن ذلك لما أعرفه منه .وإني أعتذر عن ما صدر مني من خطأ , وعذري في ذلك أنني ما اجتهدت في تنقيح الرسالة أو ترتيبها, فلعلها تكون مسودة , وأنبه قارئ الرسالة إلى أن هذا الرد ليس من قبيل الطعن والوقيعة, إنما هو استفزاز علمي محمود للأستاذ كركيش كي نستفيد منه في رسالة يكتبها على أنني لست أقارن نفسي به, هذا أمر لا يخطر على بالي فحبذا رجل يعرف قدر نفسه,ولا يلزم من خلافنا له عدم احترامنا له ولغيره إن كان يقول عن حجة عنده وبصيرة,ولسنا نتعاظم على أن نأخذ الحق ممن أصابه, وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن منع وهات.فإن اصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق