(إحياء الأرض الفلاة ببيان حكم (الفواتح) بعد الصلاة) (عند علماء المالكية)

بسم الله الرحمن الرحيم
(إحياء الأرض الفلاةببيان حكم (الفواتح) بعد الصلاة)(عند علماء المالكية)

كتبه لنفسه
طارق بن عبد الرحمن الحمودي


الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله, أما بعد:
فإن السنة صمام أمان هذا الدين من كل دخيل وشائبة. فإنه كلما ترك منه سنة نخرت فيه بدعة.ومن البدع التي شاعت وذاعت في بلاد المغرب وربما في غيره من بلاد المسلمين تصدر الإمام للدعاء بعد السلام للمأمومين جهرا وهم يؤمنون على دعائه.وهو المسمى عندنا (بالفواتح أو الفاتحة).وهم مخالفون في ذلك للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه, ومخالفون لمذهب مالك رحمه الله تعالى وكبار المنتسبين إلى مذهبه.وقد قال مالك رضي الله عنه: (ما لم يكن يومئذ دينا فليس اليوم دينا , ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها).
ـ ففي المدونة (1/144) : (وقال مالك في إمام مسجد الجماعة أو مسجد من مساجد القبائل قال:  إذا سلم فلأيقم ولا يقعد في الصلوات كلها. قال وأما إذا كان إماما في السفر أو إماما في فنائه ليس بإمام جماعة فإذا سلم فإن شاء تنحى وإن شاء أقام)
فهذا نص صريح في كراهة مالك لذلك.
ـ  وقال ابن أبي زيد القيرواني المالكي الملقب بمالك الصغير في الرسالة : (وإذا سلم الإمام فلا يثبت بعد سلامه إلا أن يكون في محله فذلك واسع )
ـ ونقل ابن ناجي المالكي في شرح الرسالة (1/201)عن القرافي أنه قال: (كره مالك وجماعة من العلماء لأئمة المساجد والجماعات الدعاء عقب الصلوات المكتوبة جهرا للحاضرين,فيجتمع لهذا الإمام التقديم وشرف كونه ينصب نفسه واسطة بين الله تعالى وبين عباده في تحصيل مصالحهم على يديه بالدعاء ,فيوشك أن يعظم نفسه ويفسد قلبه ويعصي ربه في هذه الحالة أكثر مما يطيعه)
ـ  وقال القرافي المالكي أحد أذكياء العالم أيضا في الذخيرة (2/205/دار الغرب الإسلامي): (قال في الكتاب : إذا سلم إمام مسجد القبائل فلا يقعد في مصلاه,بخلاف إمام السفر ونحوه,لما روى سحنون في الكتاب أنها السنة...)
ـ وقال الونشريسي المالكي في المعيار المعرب (1/283و284/): سئل الشيخ الحافظ أبو العباس أحمد بن قاسم القباب من أيمة فاس عن حكم الدعاء إثر الصلاة؟
فأجاب رحمه الله ما نصه : الحمد لله , الجواب وبالله تعالى التوفيق أن الذي عندي ما عند أهل العم في ذلك من أن ذلك بدعة قبيحة... وقد عد الفقهاء قيام الإمام من موضعه ساعة يسلم من فضائل الصلاة... ولو كان هذا حسنا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ولم ينقل ذلك من العلماء مع تواطئهم على نقل جميع أموره حتى هل كان ينصرف من الصلاة على اليمين أو على اليسار) اهـ باختصار من فتوى مشهورة له في النهي عن ذلك .

ـ قلت: المقصود بالحافظ في اصطلاح المالكية الحافظ للفروع المذهبية ! ومثل ذلك يصفون به ابن الجد المالكي الفهري وغيره
ـ وسئل الإمام الشاطبي المالكي كما في فتاواه (ص127) عن دعاء الإمام للجماعة في أدبار الصلوات,هل في السنة ما يعضده أو ما ينافيه؟
فأجاب رحمه الله تعالى : (دعاء الإمام للجماعة في أدبار الصلوات ليس في السنة ما يعضده, بل فيها ما ينافيه,فإن الذي يجب الاقتداء به سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم, والذي ثبت عنده بعد الصلوات إما ذكر مجرد لا دعاء فيه كقوله : (اللهم لا مانع لما أعطيت) وأشباه ذلك,وإما دعاء يخص به نفسه كقوله (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ) وأشباهه,ولم يثبت عنه أنه دعا للجماعة,وما زال كذلك مدة عمره, ثم الخلفاء الراشدون بعده,ثم السلف الصالح إلى أن نص العلماء على أن الإمام إذا سلم انصرف ولا يقعد في موضع إمامته,أفبعد هذا إشكال لمن وفق وألهم رشده؟!)
ـ وكتب إلى بعض أصحابه الأئمة ممن كان قد ترك الدعاء جماعة في أدبار الصلوات ثم عاد إلى ذلك كما في المعيار المعرب(11/141): (بلغني أنكم رجعتم إلى الإمامة, واشترط عليكم في الرجوع أن تدعوا بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات,فالتزمتم الشرط,فإن كان ذلك لأنكم ظهر لكم الصواب فيه, فما بالكم لم تعرفوا محبكم بوجه الصواب, فيكون تعاونا على البر والتقوى,وإن كان ذلك لأجل معيشة فقد اتهمتم الرب سبحانه في ضمان الرزق,أو لغير ذلك فعرفوني به))
ـ وقال ابن الحاج المالكي في المدخل (1/58/دار الفكر): (ثم ينوي الدعاء بعد الصلاة أيضا ؛ لأنه من السنة أعني دعاء كل إنسان في سره لنفسه ولإخوانه دون جهر اللهم إلا أن يكون إماما ويريد أن يعلم المأمومين على ما قاله الشافعي رحمه الله فإذا رأى أنهم قد تعلموا سكت)
ـ وقال ابن بطال المالكي في شرح البخاري عند شرحه لحديث أم سلمة في (باب مكث الإمام في مصلاه بعد التسليم)  : (وأما مكث الإمام في مصلاه بعد السلام، فقد كرهه أكثر العلماء إذا كان إمامًا راتبًا إلا أن يكون مكثه لعلة، كما فعل عليه السلام من أجل انصراف النساء قبل أن يدركهن الرجال، هذا قول الشافعي، وأحمد بن حنبل، وقال مالك: يقوم ولا يقعد في الصلاة كلها إذا كان إمام مسجد جماعة، وإن كان إمامًا في سفر، فإن شاء قام وإن شاء قعد.)
هذا مذهب المحققين من فضلاء أئمة المالكية رحمهم الله تعالى. ومن أدلتهم وشواهدهم على ذلك من الآثار ما رواه الإمام مسلم (592) عن عائشة قالت : كان النبي  صلى الله عليه وسلم  إذا سلم لم يجلس إلا مقدار ما يقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام وفي رواية بن نمير يا ذا الجلال والإكرام)
وكان هذا هديه صلى الله عليه وسلم إلا لحاج مثل أن يكون خلفه نساء فيمكث يسيرا  بقدر ما يخرج النساء كي لا يختلطن بالرجال بباب المسجد قبل أن يكون لهن باب خاص بهن بعد ذلك.
  فقد روى الإمام البخاري ( 832 ) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : (كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ويمكث هو في مقامه يسيرا قبل أن يقوم) قال الزهري راوي الحديث : نرى والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال.
وقد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة وبوب له بقوله : (: باب ذكر الدليل على أن النبي  صلى الله عليه وسلم  إنما كان يقوم ساعة يسلم  إذا لم يكن خلفه نساء واستحباب ثبوت الإمام جالسا إذا كان خلفه نساء ليرجع النساء قبل أن يلحقهم الرجال )
ـ وروى عبد الرزاق في المصنف (2/242) وأبو يوسف في كتاب الآثار (ص31) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/270) عن حماد عن أبي الضحى عن مسروق قال : (كان أبو بكر رضي الله عنه يسلم عن يمينه وعن شماله ثم ينتقل ساعتئذ كأنه على الرضف)
  ـ ورواه عبد الرزاق (2/242) عن معمر عن قتادة قال: كان أبو بكر إذا سلم كأنه على الرضف حتى ينهض 
قلت: الرضف بسكون المعجمة وتفتح الراء وبعدها فاء جمع رضفة وهي حجارة محماة على النار
ـ وروى عبد الرزاق(2/242) عن أيوب عن ابن سيرين قال: قلت لابن عمر إذا سلم الإمام انصرف قال : (كان الإمام إذا سلم انكفت وانكفتنا معه ) وهذا إسناد صحيح, وقد صححه الحافظ ابن حجر في الفتح ()
ـ وروى أيضا حدثنا وكيع عن محمد بن قيس عن أبي حصين قال : (كان أبو عبيدة بن الجراح إذا سلم كأنه على الرضف حتى يقوم)
ـ وروى ابن وهب كما في المدونة (1/144) والبيهقي في السنن (2/182) عن أبي الزناد قال: سمعت خارجة بن زيد بن ثابت يعيب على الأئمة قعودهم بعد التسليم وقال: إنما كانت الأئمة ساعة تسلم  تنقلع من مكانها) ولفظ البيهقي (ويقول السنة في ذلك أن يقوم الإمام ساعة يسلم)
ـ وروى ابن أبي شيبة (1/269) حدثنا أبو داود عن زمعة عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان إذا سلم قام فذهب كما هو ولم يجلس.
وروى (2/343) عن الثوري عن خصيف أن سعيد بن جبير قال : (ليس من السنة أن يجلس حتى يقوم)

*وقد عللوا كراهة ذلك بعلل ,فقال الشيخ زروق المالكي في شرح الرسالة (1/201/دار الفكر) : (علة النهي أحد ثلاثة :وقوع الكبر في نفسه وانقضاء مدة تقدمه الذي يقتضي شغل المكان المحبس عليه أو التلبيس على الداخل بكون الصلاة بقي منها شيء)
ـ وقال القباب في الفتوى المذكورة آنفا : (ونقل الفقهاء في توجيه استحباب السرعة في القيام له أن جلوسه هنالك يدخل عليه به كبر وترفع على الجماعة , وتزين في انفراده بموضع عنهم يرى به الداخل أنه إمامهم, وأما انفراده به حال الصلاة فضرورة,فإذا كان هذا في الانفراد بالموضع فكيف إذا انضاف إليه من تقدمه إياهم للتوسل به في الدعاء والرغبة وتأمينهم على دعائه جهرا, ولو كان هذا حسنا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ولم ينقل ذلك من العلماء مع تواطئهم على نقل جميع أموره حتى هل كان ينصرف من الصلاة على اليمين أو على اليسار)
قلت: قد تكون كل هذه العلل من علل النهي لا كلها عند من يقول بالتعليل, ومنها أنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم أعلم الناس وأفقههم وأحرصهم على الخير والازدياد منه والمسارعة إليه.ومثل هذه التعليلات مما تبطل به السنن ويشاغب به على الهدي. فيقولون: (علة النهي كذا, فإذا زالت زال الحكم). فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وليس معنى استحباب المسارعة إلى القيام بعد السلام مطلقا بل يستثنى من ذلك أذكار المصلي لنفسه منفردا كما ورد في السنة وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.والإمام ينصرف بوجهه عن القبلة ويدعو لنفسه.
ـ  قال ابن الحاج المالكي في المدخل (1/58/دار الفكر): (ثم (أي المصلي) ينوي الدعاء بعد الصلاة أيضا ؛ لأنه من السنة أعني دعاء كل إنسان في سره لنفسه ولإخوانه دون جهر اللهم إلا أن يكون إماما ويريد أن يعلم المأمومين على ما قاله الشافعي رحمه الله فإذا رأى أنهم قد تعلموا سكت)
ـ و ذكر المقري في نفح الطيب (5/514) ( أن لأبي سعيد ابن لب كتابة في مسألة الأدعية إثر الصلوات على الهيئة المعروفة، وقد رد عليه في هذا التأليف تلميذه أبو يحيى ابن عاصم الشهيد في تأليف نبيل انتصاراً لشيخه أبي إسحاق الشاطبي، رحم الله تعالى الجميع.)
وفي المعيار المعرب (1/286و282) رد لقاضي غرناطة  أبي الحسن علي بن محمد بن الحسن النباهي على فتوى الكراهة, أشار إليها المقري في أزهار الرياض(2/7) بقوله (وله رحمه الله بحث في مسألة الدعاء بعد الصلاة، رام فيه الرد على الشيخ الإمام أبي إسحاق الشاطبي، حسبما نقله صاحب المعيار) استدل فيه بالأحاديث الواردة في الذكر عقب الصلاة واستدل غيره بعمومات في فضل الدعاء وبجريان العمل كما قال ابن ناجي في شرح الرسالة : (استمر العمل عندنا بإفريقية على جواز ذلك, وكان بعض من لقيته ينصره بأن الدعاء ورد الحث عليه من حيث الجملة, فقال تعالى (ادعوني أستجب لكم) وقال (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) .
قال ابن الحاج المالكي في المدخل (1/58): (قد وردت أحاديث تدل على جواز الذكر والقراءة جهرا وجماعة فالجواب أن الأحاديث الواردة في ذلك محتملة للوجهين وجاء فعل السلف بأحدهما فلا شك أنه المرجوع إليه)
وقال الشاطبي في الاعتصام(257 إلى 262): (وقعت نازلة إمام مسجد ترك ما عليه الناس بالأندلس من الدعاء للناس بآثار الصلوات بالهيئة الاجتماعية على الدوام - وهو أيضا معهود في أكثر البلاد فإن الإمام إذا سلم من الصلاة يدعو للناس ويؤمن الحاضرون - وزعم التارك أن تركه بناء منه على أنه لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعل الأئمة بعده حسبما نقله العلماء في دواوينهم عن السلف والفقهاء
أما أنه لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فظاهر, لأن حاله عليه السلام في أدبار الصلوات مكتوبات أو نوافل - كانت بين أمرين: إما أن يذكر الله تعالى ذكرا هو في العرف غير دعاء, فليس للجماعة منه حظ إلا أن يقولوا مثل قوله أو نحوا من قوله كما في غير أدبار الصلوات فإنما كان يقول في خاصة نفسه كسائر الأذكار فمن قال مثل قوله فحسن ولا يمكن في هذا كله هيئة اجتماع
 وان كان دعاء فعامة ما جاء من دعائه عليه السلام بعد الصلاة مما سمع منه إنما كان يخص به نفسه دون الحاضرين
ثم ذكر أدعية النبي صلى الله عليه وسلم وكلها بلفظ المفرد مثل قوله (اللهم اغفر لي)ثم قال :
(تأملوا سياق هذا الأدعية كلها مساق تخصيص نفسه بها دون الناس فيكون مثل هذا حجة لفعل الناس اليوم ؟ إلا أن يقال قد جاء الدعاء للناس في مواطن كما في الخطبة التي استسقى فيها ونحو ذلك, فيقال نعم فأين التزام ذلك جهرا للحاضرين في دبر كل صلاة.
قال بعض شيوخنا الذين استفدنا منهم:  وإذا كان هذا في انفراده في الموضع فكيف بما انضاف إليه من تقدمه أمامهم في التوسل به بالدعاء والرغبة وتأمينهم على دعائه جهرا قال - ولو كان هذا حسنا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقل ذلك أحد من العلماء مع تواطئهم على نقل جميع أموره.
حتى هل كان ينصرف من الصلاة عن اليمين أو عن الشمال وقد نقل ابن بطال عن علماء السلف إنكار ذلك والتشديد فيه على من فعله بما فيه كفاية
هذا ما نقله الشيخ بعد أن جعل الدعاء بإثر الصلاة بهيئة الاجتماع دائما بدعة قبيحة واستدل على عدم ذلك في الزمان الأول بسرعة القيام والانصراف لأنه مناف للدعاء لهم وتأمينهم على دعائه بخلاف الذكر ودعاء الإنسان لنفسه فإن الانصراف وذهاب الإنسان لحاجته غير مناف لهما
فبلغت الكائنة بعض شيوخ العصر فرد على ذلك الإمام ردا أمرع فيه على خلاف ما عليه الراسخون وبلغ من الرد - على زعمه - إلى أقصى غاية ما قدر عليه واستدل بأمور إذا تأملها الفطن عرف ما فيها
كالأمر بالدعاء إثر الصلاة قرآنا وسنة وهو - كما تقدم - لا دليل فيه ثم ضم إلى ذلك جواز الدعاء بهيئة الاجتماع في الجملة إلى في أدبار الصلوات ولا دليل فيه أيضا - كما تقدم - لاختلاف المتأصلين
وأما في التفصيل فزعم أنه ما زال معمولا به في جميع أقطار الأرض أو في جلها من الأئمة في مساجد الجماعات من غير نكير إلا نكير أبى عبد الله ثم أخذ في ذمه وهذا النقل تهور لا شك لأنه نقل إجماع يجب على الناظر فيه والمحتج به قبل التزام عهدته أن يبحث عنه بحث أصل عن الإجماع لأنه لا بد من النقل عن جميع المجتهدين من هذه الأمة من أول زمان الصحابة رضي الله عنهم إلى الآن هذا أمر مقطوع به ولا خلاف أنه لا اعتبار بإجماع العوام وإن ادعوا الإمامة
وقوله : (من غير نكير) تجوز بل ما زال الإنكار عليهم من الأئمة فقد نقل الطرطوشي عن مالك في ذلك أشياء تخدم المسألة فحصل إنكار مالك لها في زمانه وإنكار الإمام الطرطوشي في زمانه واتبع هذا أصحابه وهذا أصحابه ثم القرافي قد عد ذلك من البدع المكروهة على مذهب مالك وسلمه ولم ينكره عليه أهل زمانه - فيما نعلمه - مع زعمه أن من البدع ما هو حسن ثم الشيوخ الذين كانوا بالأندلس حين دخلتها هذه البدعة - حسبما يذكر بحول الله - قد أنكروها وكان من معتقدهم في ذلك أنه مذهب مالك وكان الزاهد أبو عبد الله ابن مجاهد وتلميذه أبو عمران الميرتلي رحمهما الله ملتزمين لتركها حتى اتفق للشيخ أبى عبد الله في ذلك ما سنذكره إن شاء الله
قال بعض شيوخنا رادا على بعض من نصر هذا العمل:  فإنا قد شاهدنا العمل الأئمة الفقهاء الصلحاء المتبعين للسنة المتحفظين بأمور دينهم يفعلون ذلك أئمة ومأمورين ولم نر من ترك ذلك إلا من شذ في أحواله - فقال - وأما احتجاج منكر ذلك بأن هذا لم يزل الناس يفعلونه فلم يأت بشيء لأن الناس الذين يقتدى بهم ثبت أنهم لم يكونوا يفعلونه
قال :  ولما كانت البدع والمخالفات وتواطأ الناس عليها صار الجاهل يقول لو كان هذا منكرا لما فعله الناس
ثم حكى أثر الموطأ : ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة . قال : فإذا كان هذا في عهد التابعين يقول كثرت الإحداثات فكيف بزماننا؟ ثم هذا الإجماع لو ثبت لزم منه محظور لأنه مخالف لما نقل عن الأولين من تركه فصار نسخ إجماع بإجماع وهذا محال في الأصول.
وأيضا فلا تكون مخالفة المتأخرين لإجماع المتقدمين على سنة حجة على تلك السنة أبد,ا فما أشبه هذه المسألة بما حكى عن أبى علي بشاذان بسند يرفعه إلى أبي عبد الله بن إسحاق الجعفري قال: (كان عبد الله بن الحسن - يعنى ابن الحسن بن علي بن أبى طالب رضي الله عنهم - يكثر الجلوس إلى ربيعة فتذاكروا يوما فقال رجل كان في المجلس
ليس العمل هذا فقال عبد الله : أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام أفهم الحجة على السنة؟ فقال ربيعة: أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء) انتهى
إلا أني أقول: أرأيت إن كثر المقلدون ثم أحدثوا بآرائهم فحكموا بها,أفهم الحجة على السنة؟ ولا كرامة.ثم عضد ما ادعاه بأشياء من جملتها قوله: (ومن أمثال الناس : ((أخطئ مع الناس ولا تصب وحدك)) أي أن خطأهم هو الصواب وصوابك هو الخطأ.قال ((ومعنى ما جاء في حديث: عليك بالجماعة, فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)) فجعل تارك الدعاء على الكيفية المذكورة مخالفا للإجماع كما ترى, وحض على اتباع الناس وترك المخالفة لقوله عليه الصلاة والسلام : لا تختلفوا فتختلف قلوبكم. وكل ذلك مبني على الإجماع الذي ذكروا, وأن الجماعة هم جماعة الناس كيف كانوا.وسيأتي معنى الجماعة المذكورة في حديث الفرق,وأنها المتبعة للسنة وإن كانت رجلا واحدا في العالم) اهـ بتصرف يسير
قلت: قد روى الخطيب في الفقيه والمتفقه (2/404/دار ابن الجوزي)عن ابن مسعود أنه قال: (الجماعة الكتاب والسنة وإن كنت وحدك) وفي رواية (الجماعة أهل الحق وإن كنت وحدك) وقد رواه أيضا (2/ص405)عن  إبراهيم النخعي بلفظ (الجماعة هو الحق وإن كنت وحدك).وقال النووي في  التبيان في آداب حملة القرآن (ص58): (روى الحاكم أبو عبد الله بإسناده عن السيد الجليل الفضيل بن عياض رضي الله عنه قال: ( لا تستوحش طرق الهدى لقلة أهلها, ولا تغترن بكثرة الهالكين, ولا يضرك قلة السالكين) وعجيب أمر هؤلاء, يستدلون بما هو حجة عليهم عند التأمل الصحيح. فإنهم معترفون أن هذا لم يكن على عهد السلف, وأول من أحدث هذا واتبعه من الناس هم القاصية من الغنم, وهم الذين أكلهم الذئب,فكيف تصير القاصية هي الجماعة بعد أن أكلها ذئب الشيطان! سبحانك هذا تدليس عظيم.
ومن العجيب أيضا أنهه بلغت البدعة بهؤلاء المتعصبة حدا أشربوها كما أشرب بنو إسرائيل عبادة العجل فبلغت بهم إلى أن هددوا ملتزم السنة في تركها بالقتل , فقد قال الشاطبي في الاعتصام (ص459و460) وهو يتحدث عن أمثلة تشرب المبتدعة لبدعهم : (...بدعة التزام الدعاء بإثر الصلوات دائما على الهيئة الاجتماعية فإنها بلغت بأصحابها إلى أن كان الترك لها موجبا للقتل عنده فحكى القاضي أبو الخطاب بن خليل حكاية عن أبي عبد الله بن مجاهد العابد أن رجلا من عظماء الدولة وأهل الوجاهة فيها - وكان موصوفا بشدة السطوة وبسط اليد - نزل في جوار ابن مجاهد وصلى في مسجده الذي كان يوم فيه وكان لا يدعو في أخريات الصلوات تصميما في ذلك على المذهب يعنى مذهب مالك لأنه مكروه في مذهبه وكان ابن مجاهد محافظا عليه فكره ذلك الرجل منه ترك الدعاء وأمره أن يدعو فأبى وبقى على عادته في تركه في أعقاب الصلوات فلما كان في بعض الليالي صلى ذلك الرجل العتمة في المسجد فلما انقضت وخرج ذلك الرجل إلى داره قال لمن حضره من أهل المسجد قد قلنا لهذا الرجل يدعو إثر الصلوات فأبى فإذا كان في غدوة غد اضرب رقبته بهذا السيف وأشار إلى سيف في يده فخافوا على ابن مجاهد من قوله لما عملوا منه فرجعت الجماعة بجملتها إلى دار ابن مجاهد فخرج إليهم وقال ما شأنكم فقالوا والله لقد خفنا من هذا الرجل وقد اشتد الآن غضبه عليك في تركك الدعاء فقال لهم : لا أخرج عن عادتي. فاخبروه بالقصة فقال لهم - وهو متبسم - انصرفوا ولا تخافوا فهو الذي تضرب رقبته في غدوة غد بذلك السيف بحول الله ودخل داره وانصرفت الجماعة على ذعر من قول ذلك الرجل فلما كان مع الصبح وصل إلى دار الرجل قوم من أهل المسجد ومن علم حال البارحة حتى وصلوا إليه إلى دار الإمامة بباب جوهر من أشبيلية وهناك أمر بضرب رقبته بسيفه فكان ذلك تحقيقا للإجابة وإثباتا للكرامة .وقد روى بعض الأشبيليين الحكاية بمعنى هذه لكن على نحو آخر) اهـ

هذا شيء جمعته لنفسي لأنكر به على الجهلة من مالكية بلدي, ولعله يطلع عليه غيري من فضلاء المالكية في بلدي أو في غيره فينكر كما ننكر, أو متبع فيستعمله إذا أنكر.وآخر الدعوى أن الحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق